عندما تمر في أحياء نابلس الحبيبة .. وترى بعينيك آثار الدمار بعد المعركة .. تدرك بأنك تعيش في ميدان من ميادين الشهادة .. وتشتم من هناك عبير الجنان الذي ينبع من أغلب بيوت هذه المدينة .. مدينة الشهداء .. فهل يا ترى بيت خلا من هذه المحن ؟؟
ولكنها في الحقيقة ليست محن .. بل هي كرامات من الله .. الذي كرمنا وكرم أسرنا بزينة الشهداء ونحن هنا لسنا بمعرض الحديث عن كرامات الشهداء .. فهم أكرم منا جميعاً ..
بعد هذه البداية القصيرة أود أن نمر على ذكرى شهيد عرفته نابلس حق المعرفة .. إنه أخي الشهيد المجاهد أحمد جود الله الذي قاد الكفاح المسلح ضد الاحتلال في نابلس لأكثر من عام .. فعاش فيها مطارَداً و مطارِداً .. عاش يلاحق الموت .. ويزرع في صفوف الغاصبين ألوان العذاب .. ويضرب لإخوانه المجاهدين أروع الأمثلة في الجهاد والقتال ضد الاحتلال ..
أحمد كان إنساناً أصر على أن يذوق مرار المطاردة والتشريد في وقت عزت فيه المآوي .. وقد مثل بمعاناته معانات شعب وأمة عانت ولا زالت تعاني تحت
ضير الاحتلال .. ولكنه مثل أيضاً صمود شعبٍ وكرامة أمة .. قاتلت حتى الرمق الأخير وستبقى تقاتل حفاظاً على كرامتها و عزتها ولتعيد مجدها بين الأمم ..
لا زلت أذكر تلك الأيام التي كان يحياها أخي في المدينة عندما كنت أذهب إليه يومياً لألقاه وتقول لي أمي الشهيدة : محمد .. لا تذهب كثيراً لرؤية أخيك حتى لا يشتبهوا بأنك تساعده .. فقلت لها يا أماه : أحمد اليوم بيننا ولا ندري أين يكون غداً .. فكل يوم أراه به هو ذلك المكسب الحقيقي من هذا الوجه المنير .. أذكر ذلك اليوم جيداً عندما حاولت القدوم إلى مكان عملي في مكتبنا وكانت دبابات الاحتلال تحاصر عمارة بجانب المكتب وتحاصر منطقة المكتب حيث لم نتمكن يومها من الدوام في 30/9/2002 ، قررت التسلل إلى داخل البلدة القديمة للاطمئنان على أخي وبحثت عنه حتى دلني بعض رفاقه على مكان تواجده، وقالوا لي أنه لم ينم طوال الليل حيث كان يهاجم الجيش برشاشه و قنابله اليدوية وأنه قد ذهب للتو للاستراحة .. فذهبت ليرفض من في البيت أن أوقظه وكانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً وقالوا أنه لم ينم بعد نصف ساعة .. كان سلاحه متدلياً على سريره وهاتفه النقال قرب رأسه .. وأنا أنظر إليه وأرى النور يشع من وجهه وأتأمل به وقلبي يتقطع حرقة عليه .. وإذا به ينتفض انتفاضة المرعوب .. فقلت له : اسم الله عليك .. ما بك ؟ فقال : أرأيت جوالي ؟؟ لقد حلمت أنه ينفجر وأن موجته الانفجارية تتوقف قرب رأسي .. فقلت له: أحمد .. أنت تودعنا .. وقبلته وتركته ينم و كنت أدرك أنه على موعد مع الرحيل .. وكانت نومته نومة ملاك متدلي.. تشعرك بالجمال بالرقة و القوة معاً .. تشعر بالحرقة والفخر معاً .. إنه على طريق الشهادة .. ينام احمد دقائق وجواله يرن و إذا به أحد زملائه يخبره بتواجد إحدى الفرائس .. ويهم الأسد ويحمل سلاحه راكضاً .. وأناديه .. أحمد .. أحمد .. اشتقت لك أريد أن أكلمك .. فيرد ليس وقتك الآن .. يمر النهار و يأتي أول الليل و نحن نسكن في غربي المدينة على مفرق زواتا ونرى سيارات عسكرية و سيارات إسعاف عسكرية تتجه نحو البلد مسرعة .. أَتًّصِل مع أحمد .. وأسمع صوته يلهث فقلت له ماذا حدث فقال لي غداً أخبرك وستعلم أني بطل .. وبعدها أتى الخبر العاجل الذي يفيد بمقتل جنديين و إصابة أربعة على مدخل عمارة برصاص مسلح فلسطيني لاذ بالفرار .. وقام الجيش بإطلاق قذائفه اتجاه أحمد الذي حماه الله ودمر الجيش عمارة سكنية بالصواريخ والقذائف انتقاماً من العملية فكان البطل لوحده قد ترجل من بين العمارات المحاصرة ليصطادهم بسلاحه البسيط تاركهم غارقين في دمائهم منتقماً للشهداء من قبله وسائراً على درب الحرية وبعيداً عن قصصه الجهادية ننتقل إلى قصة اغتياله
كان الوداع الأخير في منزل الشهيد أحمد جود الله، جلس أحمد و علاء وأيمن (رفاقه) في المنزل، أحمد يخاطب أمه : أمي أشكو إليك علاء أنا أنام بعد الفجر وهو يكون نائماً في بيته ويأتي الساعة السابعة صباحاً ويزعجني ولم أنم سوى سويعات قليلة !! أمي الشهيدة المجاهدة التي كانت دائماً سنداً للمطاردين وعوناً لهم بجهدها ودعائها لهم تقول لعلاء من يحب صديقه يدعه يرتاح .. وومن ضمن الحديث يقول أحمد أمي أنا لم آكل منذ ظهر أمس " كان الوقت بعد الظهر" .. فهمت أمه بتحضير الطعام له فرد علاء وقال لقد أخذنا الرجل من محله "يقصد أيمن الحناوي" وعلينا إعادته بسرعة فإذا كان لا بد من الطعام فحضري له بيضتين .. فرد أحمد إذا كان الطعام بيض فلا أريد أن آكل وصفي الأمر أن قامت أمي بتحضير الشاي والكعك وأكلوا واتجهوا في سيارة أحمد المازدا إلى منطقة رأس العين مسرعين .. ويروي الشهيد أيمن الحناوي قبل استشهاده ما حدث منذ انطلاقهم من المنزل حيث كان هو سائق السيارة يقول "لست أدري لماذا كنت مسرعاً قدت السيارة بسرعة 140كم/ساعة وكأننا مستعجلين للشهادة، في الطريق يتحدثون عن الشهادة فيقول علاء انه يتمنى أن يستشهد الآن ولا يبقى من جسده شيء ويرد أحمد أما أنا فلا فلست مستعجلاً لم أنل منهم بعد كفايتي أما أنا فقلت لماذا يا أحمد هل من أحد لا يحب أن يستشهد الآن !!و نصل إلى باب المحل الخاص بي فنرى رجلاً في المحل بالإضافة للصبي الذي يعمل عندي، فيطلب مني احمد وقد كان جالساً في الخلف ممتطياً بندقية M16 كما فعل كل واحد منا أن أتقدم بضعة أمتار إلى الأمام حتى لا ألفت الأنظار أني أنزل من سيارة مطلوبين وفعلت ما طلب، فأتى لي الصبي من شباك السيارة وقال لي أن الرجل ينتظر منذ فترة طويلة فقلت له انتظر دعني أودع المسافرين، لست أدري لم قلت هذه الكلمة وكأني كنت أعلم أني لن أراهم بعد الآن .. وخلال تخطيطنا لعملية جديدة أفاجأ بشخص يتقدم من الأمام بشكل مريب وعلى رأسه كسكيت فأسأل أحمد هل هذا الشخص من جماعتك؟ وينفي أحمد وأخرج أنا رجلي من باب السيارة قرب الواد حيث لا متسع إلا لشخص واحد ليمشي بين السيارة والواد وكان وضع السيارة معاكساً للسير ويصل الرجل المشبوه قرب السيارة ويرفع علي قطعة سلاح صغيرة وغريبة تشبه المسدس لم أعهد مثلها من قبل ، للوهلة الأولى اعتقدت أنه يمازحني ثم أمسكني من قميصي وكأنه يريد اعتقالي فأدركت الموقف وبادرته بدفعه بباب السيارة و قفزت في الواد حيث بدأ إطلاق نار عنيف وسمعت صوت صراخ الشهيد علاء " أما شهادة الناس فلم تتعارض مع شهادة الشهيد أيمن بل أضافوا إليها أن رجلين آخرين قدما من خلف السيارة وباشرا بإطلاق النار على أحمد وعلاء من الخلف وقدمت سيارة سوبارو مسرعة أطلق من فيها النار على السيارة من الأمام .. استشهد علاء على الفور بعد إصابته عدة عيارات نارية في الوجه أما أحمد فقد أصيب عدة إصابات تمكن خلالها من إصابة أحد أفراد وحدة دوفدفان الخاصة في رقبته وشوهد ملقى على الأرض .. أحمد لم يستشهد .. وكأنها كانت رغبته حتى يقتل منهم المزيد ..تأتي ثلاثة دوريات عسكرية وسيارة إسعاف صهيونية وينتشلوا جريحهم ويغطوا انسحاب القوة الغادرة . ويجتمع الناس وينتشلوا علاء أولاً ويأخذوا الأسلحة وينتبهوا أن احمد لا زال على قيد الحياة ويطلبوا الإسعاف هاتفين أحمد على قيد الحياة .. فتعود من بعيد دورية صهيونية تطلق النار اتجاه الناس وتبعد الناس عن السيارة ويترجل جندي غادر إلى السيارة ويوجه مسدسه اتجاه أحمد ويصيبه ثلاثة رصاصات عن بعد سنتمترات في القلب وفي الصدر عن يمين ويسار القلب "الرئتين" ويصاب بما مجموعه 8 رصاصات وعاد مستشهداً مبتسماً وكأنه زف إلى الحور العين وهكذا يأبى جثمانه الطاهر أن يجلس في الثلاجات .. تراه ممدداً وكأنه نائم قرب عروسه الجميلة .. البسمة تعلوا وجنتيه وغمضة عينه بريئة .. والعرس حوله عرس الشهادة .. أحمد استشهد .. تبكي الفتيات وتزغرد الأمهات .. وتزغرد البنادق .. قسماً سنثأر .. قسماً سنثأر يا أحمد .. أحمد قائد العمليات .. مفجر العبوات.. قناص الجنود .. أسد الجبال .. أحمد معشوق الجماهير .. محبوب الناس وحبيب الله ..
وتمر مراسم زفة العريس إلى روضته حيث يشارك عشرات الآلاف في التشييع نساء ورجالاُ يودعون القائد الحبيب أحمد ورفيق دربه علاء وكانت أكبر الأعراس بعد الاجتياح .. مئات المسلحين تعهدوا بالثأر .. انطلق رصاصهم مدوياً عهداً يا أحمد .. عهداً يا علاء .. إنا إنشاء الله لمنتقمون .. وويسجى الشهيدين في روضة واحدة .. ورفرفت أرواحهم في نابلس و تأبى أمي إلا أن تلحقه بجريمة اغتيال جبانة نفذها الاحتلال بحقها وحق أيمن الحناوي الذي لم يكتب له أن يرحل مع أحمد ولكنه رحل مع أم أحمد وأسر أخي عبد الله الذي رأى أمه تقتل برصاص المروحيات ومئات الجنود الذين نصبوا لهم الكمين أمام عينيه .. وتبقى مسيرة الشهداء مستمرة .
الشهيد أحمد جود الله وقصة اغتياله
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق