كان محمود وعبد الرحمن يتشاجران بصوت مرتفع ينذر بأن يعقب ذلك تشابك بالأيدي. وكان هذا الحوار الدموي شيئا معتادا منهما كلما تطرقا في الحديث عن الكرة. فقد كان كل منهما يشجع فريقا غريما لفريق الآخر. ورغم أنهما إخوة، إلا أن صلة الكرة كانت أحب إليهما – مثل جميع الشباب في عمرهما – من رابطة الإخوة!!!
ودخل عليهما " جدو ياسين " الغرفة وهما في أوج المعركة. كان جدو ياسين يحب حفيديه حبا جما. ولكنه كان يشفق عليهما من عشقهما المبالغ فيه – مثل شباب عصرهما – للكرة. وحاول الجد أن يخرج الشابين من الموضوع الذي سيطر على تفكيرهما. فبادرهما بالسؤال:
- ما الذي أدى لهذه المعركة الرهيبة يا أولاد؟
وبادر محمود بالحديث:
- حمدا لله أنك أتيت الآن يا جدو!! تصور أن عبد الرحمن يريد أن يثبت أن " بيليه " يلعب أفضل " مارادونا "!!!
فانتهز الجد الفرصة وقال:
- وهل هما أفضل من أبو بكر النابلسي؟
فتساءل الشابين معا في صوت واحد:
- ومن هو أبو بكر النابلسي؟ هل هو لاعب جديد؟ وفي أي فريق؟
ضحك الجد وقال:
- للأسف فإن أبو بكر النابلسي ليس لاعبا للكرة، ولكنه عالم من علماء المسلمين الذين ضحوا بأرواحهم رخيصة حتى يصل إلينا الدين غضا كما هو الآن.
وزاد فضول الشابين فقالا للجد:
- إذن عليك أن تقص علينا قصته.
أخذ الجد نفسا عميقا، وبدأ يقول:
- الإمام أبو بكر النابلسي، هو: محمد بن أحمد بن سهل بن نصر، أبو بكر الرملي الشهيد المعروف بابن النابلسي. كان عابدا صالحا زاهدا، قوالا بالحق، وكان إماماً في الحديث والفقه، صائم الدهر، كبير الصولة عند الخاصة والعامة.
قال عبد الرحمن:
- وما هو العلم الذي نبغ فيه يا جدو؟
رد جدو ياسين قائلا:
- هو علم الحديث. فقد كان رحمه الله من المحدثين الكبار، فقد حدّث عن: سعيد بن هاشم الطبراني، ومحمد بن الحسن بن قتيبة، ومحمد بن أحمد بن شيبان الرملي. كما حدّث عنه: تمام الرازي، والدارقطني، وعبد الوهاب الميداني، وعلي بن عمر الحلبي، وغيرهم.
وعاد عبد الرحمن يسأل جده:
- ولكن ما هي قصته يا جدو؟
صمت الجد برهة، ثم بدأ في القول:
- كما تعلمون فقد أسس عبيد الله المهدي دولة الخلافة الفاطمية، واتخذ مدينة المهدية - التي نسبها إليه - عاصمة له. وتقع هذه المدينة على ساحل تونس، على مسافة ستة عشر ميلا من الجنوب الشرقي لمدينة القيروان الحالية. ثم سار أبناء عبيد الله المهدي على نهج سياسته التوسعية. حتى استطاع أبو تميم معد بن إسماعيل الملقب بالمعز لدين الله فتح مصر، فدخلها في يوم الجمعة الثامن من شهر رمضان عام 362 من الهجرة. وكان قد مهد له قائده جوهر الصقلي الأمور وأقام له الدعوة وبنى له القاهرة فنزلها. وكان حكام الدولة الفاطمية يدعون إلى المذهب الشيعي، بينما كان أهل مصر وفلسطين وسوريا يعتنقون المذهب السني.
وسكت الجد لحظات ريثما يسترد أنفاسه، ثم أكمل القصة قائلا:
- كانت محنة الفاطميين عظيمة على المسلمين، كما يقول الإمام الذهبي. ولما استولوا على الشام ( فلسطين حاليا ) هرب الصلحاء والفقراء من بيت المقدس. وكان الفاطميون يجبرون علماء المسلمين على لعن أعيان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر. وكان ممن هرب من العلماء من وجه الفاطميين الإمام النابلسي، الذي هرب من الرملة إلى دمشق. ولما ظهر المعز لدين الله بالشام واستولى عليها، أظهر الدعوة إلى نفسه، وأظهر المذهب الرديء، ودعا إليه، وأبطل التراويح وصلاة الضحى، وأمر بالقنوت في الظهر بالمساجد. أما الإمام النابلسي فكان من أهل السنة والجماعة، وكان يرى قتال الفاطميين. وقال النابلسي: لو كان في يدي عشرة أسهم كنت أرمي واحداً إلى الروم وإلى هذا الطاغي تسعة. وبعد أن استطاع حاكم دمشق أبو محمود الكتامي أن يتغلب على القرامطة أعداء الفاطميين، قام بالقبض على الإمام النابلسي وأسره، وحبسه في رمضان، وجعله في قفص خشب. ولما وصل قائد جيوش المعز إلى دمشق، سلّمه إليه حاكمها. فحمله إلى مصر.
وواصل الجد قائلا:
- فلما وصل إلى مصر، جاء جوهر للمعز لدين الله بالزاهد أبا بكر النابلسي، فمثل بين يديه. فسأله:
- بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفيناً تسعة!
فقال الإمام النابلسي:
- ما قلت هكذا!!
ففرح القائد الفاطمي، وظن أن الإمام سيرجع عن قوله. ثم سأله بعد برهة:
- فكيف قلت؟
قال الإمام النابلسي بقوة وحزم:
- قلت: إذا كان معه عشرة وجب أن يرميكم بتسعة، ويرمي العاشر فيكم أيضاً!!!
فسأله المعز بدهشة:
- ولم ذلك؟!!
فرد الإمام النابلسي بنفس القوة:
- لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
وتساءل محمود وعبد الرحمن:
- وماذا فعل معه الحاكم الفاطمي؟!!
فقال الجد:
- أمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضُرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا. وفي اليوم الثالث، أمر جزارا يهودياً – بعد رفض الجزارين المسلمين – بسلخه، فسُلخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله ويصبر، حتى بلغ العضد، فرحمه السلاخ وأخذته رقة عليه، فوكز السكين في موضع القلب، فقضى عليه، وحشي جلده تبناً، وصُلب. وقتل النابلسي في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من الهجرة.
قال محمود:
- ولكن كيف أُوتي هذا الرجل مثل هذه القوة والثبات؟!!
فرد الجد في هدوء:
- إنما حياة السنة بعلماء أهلها والقائمين بنصرة الدين، لا يخافون غير الله!! إنه عالم من علماء الحديث. فهو يعلم أنه يحمل علما أفضل من أي شيء في الدنيا!! لقد سجنه الفاطميون وصلبوه على السنة. ومن مظاهر ثباته: إنه لما أُدخل مصر، قال له بعض الأشراف ممن يعانده:
- الحمد لله على سلامتك!
فقال:
- الحمد لله على سلامة ديني وسلامة دنياك!!!
كذلك فلم يكن يردد وهو يُسلخ إلا الآية الكريمة: ﴿ كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾ ] الإسراء: 58 [ .
وسأل عبد الرحمن:
- ولكن هل كانت له كرامات؟!
فأجاب الجد:
- نعم يا بني!! لما سُلخ كان يُسمع من جسده قراءة القرآن. وذكر ابن الشعشاع المصري إنه رآه في النوم بعدما قُتل، وهو في أحسن هيئة. قال: فقلت: ما فعل الله بك؟ قال:
حباني مالكي بدوام عزٍ *** وواعـدني بقـرب الانتصارِ
وقربنـي وأدناني إليه *** وقال: انعم بعيشٍ في جواري
ثم أردف الجد قائلا:
- والآن ما رأيكما في هذه القصة؟ أليس الانشغال بقراءة تاريخ وسير علماء المسلمين أفضل من تضييع الوقت في توافه الأمور مثل الأمور التي كنتما تتعاركان من أجلها.
وأطرق كل محمود وعبد الرحمن رأسيهما خجلا من جدهما، ووعداه ألا يشغلا أنفسهما بعد ذلك إلا بما هو أجدى وأنفع لدينهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق